قصائد مختارة للشاعر الأميركي من السكان الأصليين (هنود حمر) سيمون جوزف أورتيز
إن عالم سيمون جي. أورتيز (Simon J. Ortiz 1941) مزيجٌ من هويات متعددة ومتنوّعة: له اسم أميركي واسم أكوميّ (هيهدروتسي)، وهو من الجنوب الغربيّ لكنه يعيش في تورنتو، كندا. ولد ونشأ في جماعة أكوما بويبلو في ألبوكيركي، نيو مكسيكو، وتلقى تعليمه الأول في مدرسة مكتب الشؤون الهندية في محمية أكوما. فيما بعد درس في جامعة نيو مكسيكو. يدرّس أورتيز حالياً في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة تورنتو، كندا. يستقصي شعره أهمية الأصول الفردية والرحلات، التي يرى، على غرار كثير من الكتاب الأميركيين من أصل هندي أحمر، أنها تشكّل الصلة الحيوية في استمرارية الحياة. تأثّر بالتراث الشفاهي الهندي الأميركي، وتؤكد قصائده على الشفاهية والسرد والتأثيرات الدنيوية الواقعية للغة.
يرى النقاد أن السرد كان دائماً جزءاً من حياته، يقول في هذا الصدد:" لأنّ رواية القصة سيرورة، أي دينامية ثقافيّة... إن ذلك الصوت الأول الذي يتفوّه به والداك أو القريبون منك في الأسرة، تلك الكلمة الأولى هي التي تدركها كصوت له معنى. قد تكون تمتمة، أنشودة، قد تكون اسمك". يتجاوز السرد، كما يرى أورتيز، كونه أسلوب الشعر فحسب، ويقول "إن الهدف من المشاركة في القص هو المحادثة، فالمستمعون إلى القصة يتحدثون معنا. نحن في عملية قائمة على المشاركة. ذلك أنّ الراوي يشارك بروايته والمستمع بإصغائه. وهذا تبادل. حوار. إنه حدث".
تأثر شعر أورتيز أيضاً بأصوات التراث الشفهي وبالطريقة التي يستحضر بها صوراً ملموسة ويستخدم التكرار. تشعر كأنّ قصائده تُبثّ عبر الكلمة المنطوقة أكثر مما هو عبر الكلمة المكتوبة. وقد قال في حوار أُجْريَ معه مؤخراً إن "الهنود يروون دوماً قصة... إن الطريقة الوحيدة للاستمرار هي رواية قصة ولا توجد طريقة أخرى. إن أطفالك لن يعيشوا إذا لم ترْو شيئاً عنهم: كيف وُلدوا، كيف جاؤوا إلى هذا المكان المحدّد، وكيف استمرّوا". ينمو شعر أورتيز من قراءته للمشهد الطبيعي للبويبلو والثقافات التي تتنفّس فيه. وكمثل الشاعرة ليزلي مارمون سيلكو، يعبّر عن قلقه من أن الغربيين ينظرون إلى الأرض كملكية يجب استخدامها بدلاً من قوة مانحة للحياة يجب احترامها.
يعلي أورتيز من شأن اللغة، حيث يبدأ كلّ شيء من طريقتك في استخدامها لكي تغيّر الواقع، وهذا هو هدف الشعر بالنسبة إليه. يقول: "كشاعر وراو وخطيب تسحرني قدرة اللغة على صياغة الأفكار والمفاهيم وإحداث التغيير في الفرد والمجتمع. يسحرني أيضاً جمال اللغة وقدرتها على تغيير الكائنات بحيث تستطيع أن تقدّر الحياة التي تحيط بها وتغيّر المجتمع البشري نحو الأفضل". ركّز أورتيز على الديناميات السياسية والاجتماعية والثقافية للسكان المحليين، لكن استبصاراته، بمنظورها ودليلها الأدبي، تتجاوز الحدود الثقافية والإثنية. يقول:"إن قوة اللغة تكمن في جمال الروح الذي يتحقّق حين نحوّل أنفسنا إلى كائنات بشرية مفكرة ومتعاطفة ومتفهمة وكريمة ومساعدة للآخرين. فإذا ما كنتُ شاعراً يجب أن أحاول دوماً أن أكون كائناً بشرياً مساعداً للآخرين، لأن هذه أيضاً هي قوة اللغة: إنها تشجّعنا على أن نكون مساعدين للآخرين دوماً".
حصل أورتيز على جائزة الظبي التبتي الذهبي الدولية للشعر في الصين سنة 2013.
من أعماله الشعرية:
التماس المطر (1967)، قبل وبعد البرق (1992)، قصائد من مستشفى المحاربين القدماء (1977) من ساند كريك (1982)، حجر منسوج (1992)، في الخارج في مكان ما (2002).
الثقافة والكون
منذ ليلتين
في ظُلْمة الوادي
هلال ونجوم فقط،
مجرد رجال فقط.
صلاةٌ، إيمانٌ، حبٌّ،
وجودٌ.
نحن نُقاس
برحابة أكبر منّا.
الظلمة نورٌ
الحجر يستيقظ.
لا أعرف
إن كانت البشرية تفهم
الثقافة: إنّ فعل
كونك إنسانياً
ليس معرفة سهلة.
بعصيٍّ خشبية مدهونة
وريش، نسافر
في الوادي نحو الحجارة،
نحو حضور صلب
في منتصف الشتاء.
نتوقّفُ.
كونوا هنا من أجلي.
يغنّي
الكون في تأمل صامت.
نحن بلا كلمات:
أنا فيكَ.
دون أن نعرف لماذا
الثقافة تحتاج إلى معرفتنا،
نحن ذات واحدة في الوادي.
والحائط الحجري
الذي أتكئ عليه يدوّرني
دون كلام صامتاً
إلى مدى النجوم
والسماوات التي في الداخل.
لا البشرية
ولا الثقافة
هما ما يحدّنا، في النهاية
بل الاتساع
الذي لا ندخله،
النجوم
التي لا ندعها تملكنا.
(من ديوان في الخارج في مكان ما، مطبعة جامعة أريزونا، 2002).
الهوامش التي نعيش فيها
بين عشية وضحاها تجمّد الهواء.
تبلّر. الآن، نسيم رقيق
يهبّ فوق تلال السهب.
الضوء يؤكد حضوره في البرد،
غير متوهج، غير براق،
ممسوكاً فحسب ومُهَدّأ.
إن هامش الواقع
هو هامش الوهم.
وفي الهامش بين
السهب وبيننا يتوضّع المكان
الاتساع الذي يؤكد الوجود.
الهواء متجمّد
وهو وعينا.
لا شيء أكثر، لا شيء أقل
يؤكد إيماننا.
سيكون الطريق مهلكاً
سيتطلب الأمر مهارة ثلجية
لقيادة السيارة.
سيكون لدينا ممر آمن.
إن الهوامش ستكون دوماً الأمكنة
الذي نعيش فيها.
(من ديوان بعد وقبل البرق، تكسون، مطبعة جامعة أريزونا، 1994)
لعنة عمياء
بوسعك أن تقود كأعمى
في تلكما الثانيتين
وسيكون هذا إلى الأبد.
فكّرتُ بهذا حين اجتازتنا شاحنة
على بعد ثمانية أميال إلى الشرق من "ميشن"،
مندفعة عبر العاصفة، غير منتبهةٍ
إلى الهضبة التي تنحدر بعيداً.
ما من فائدة تُرجى من إطلاق اللعنات ولكنني أطلقتُ لعنةً
طارت الكلمات، تطايرت خفيّةً
نحو النقطة اللامرئية حيث
يلتقي السهب والسماء.
الطريق هكذا في تلك الثواني،
لا شيء إلا الجانب الأبيض الأعمى
للخلق.
مع ذلك أنت في مكان ما،
خلية صغيرة مكافحة.
قد تكون مهماً
ولكن يمكن ألا تكون أي شيء.
إنّ الأبدية مكان زمن كليّ
تصحو منه بعد أن تعبر الكتلة.
تطير لعنتي في مكان ما هناك،
وبعد ذلك أرسل صلاتي في أعقاب
شاحنة الديزل المتجهة إلى شلالات سيو
مائة وثمانين ميلاً عبر العاصفة.
فتى محطّم
لا يمكن أن يكون عمره أكثر من ستة عشر عاماً،
من المحتمل أيضاً أنه في الخامسة عشرة. مراهق أسود نحيل، يرتدي كنزة فضفاضة.
حين صعدت الباص 6 في برنس والجادة الأولى،
صعد أيضاً إلى الجهة المقابلة للموضع الذي أجلس فيه.
فتى لم أره بما يكفي لأن شخصين أكبر منه،
متشرّدين تفوح منهما رائحة النبيذ بدآ بالتحدث معي.
إنهما ذاهبان إلى كاليفورنيا، للحصول على شيكات المعونة الاجتماعية،
ثم سيعودان إلى أريزونا في الوقت المناسب للحصول على منحة الطعام.
حين توقّف الباص في "رونستاد ترانزيت سنتر"
كان الفتى آخر من خرج من الباص، تماماً خلفي.
كنت قد بدأت عبور الشارع كي أنتظر الباص 8
حين جاء رجلان قويّان، أحدهما يرتدي سترة جلدية أنيقة
والآخر قميصاً قطنياً فضفاضاً وسميكاً. كلاهما بارد وصارم،
وأمسكا بالفتى بهدوء وأسندا ظهره إلى
عمود إنارة وقيداه بسرعة إليه.
أصفاد بلاستيكية. أسلوب مُتّبع. تم بكفاءة.
راقبتُ ما يجري مع هندي آخر.
لم ينظر أحد أو ربما لا يريد أحد أن ينظر.
كل شيء هادئ وطبيعي، ولم يحدث إزعاج.
تبادلتُ أنا والهندي الآخر النظرات، واستدرْنا بعيداً.
فتى محطم. هنود محطمون. حيوات محطمة. محطمة مرة ثانية.
نظرتُ حولي باحثاً عن المُشرَّدَيْن الذاهبين إلى كاليفورنيا.
كانا قد ذهبا، اتجها إلى مسارات سكك الحديد.
وفيما كنت أنتظر الباص، لم أنظر حولي بحثاً عن رجال الشرطة المتخفين.
أعرف أنهم موجودون، في هذه الأميركا، ينتظرون، هنا وهناك،
ينتظرون فتياناً محطمين، وهنوداً محطمين، وحيوات محطمة.
(من ديوان في الخارج في مكان ما، مطبعة جامعة أريزونا، 2002).
ما هي القصيدة؟
تصوّروا رجلاً يتنقّل من مكان
إلى آخر، يعثر على عظم هنا،
على جمجمة هناك، على قطعة حجر،
على شظية من صحن، على تقويم قديم،
على قضيب حديدي صدئ، على قطعة قماش.
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
أربعة عصافير تتقافز في الفناء الخلفيّ
قرب الممر إلى برميل القمامة.
تنقر الفتات وتشقّ الجليد
يباغتها طائرا أبو زريق أزرقان
فلا تتردد العصافير في الهرب.
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
يشاهد الرجل جريمة في الصباح.
هذا في أميركا.
في يوم آخر يجلس في مكتب حكوميّ.
هذا هو المكان الذي حدثت فيه.
الأمور تحدث. جريمة وانتظار في مكاتب الحكومة.
هذه ليست قصيدة.
هذه ليست قصيدة.
ذلك الرجل لا يمكن أن يُنقذ.
كل شيء يجب أن يُنقذ قبله.
لا يوجد شيء للأكل.
هذه ليست قصيدة.
هذه ليست قصيدة.
ما هي القصيدة؟ هذه ليست قصيدة.
هذه ليست قصيدة. ما هي القصيدة؟
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
ما هي القصيدة إن لم تكن هذا؟
(من ديوان بعد وقبل البرق، تكسون، مطبعة جامعة أريزونا، 1994)
الجوع في نيويورك
يزحفُ الجوعُ إليكَ
من مكانٍ ما في عضلاتكَ
أو من الاسمنت أو الأرض
أو الريح التي تدفعكَ.
يأتي إليك، طالباً
طعاماً، كلمات، حكمة، ذكريات فتية
عن أمكنة أكلتَ فيها، شربْت مياه ربيع باردة،
أو أمسكت بيد إحداهنّ،
أو منزل الرقصات اللطيفة، البطيئة،
الأناشيد، الآلهة القوية، العالم
الذي تعرفه.
يفتّشكَ الجوع
يسألك دائماً:
"كيف حالك يا بني؟ أين أنت؟
هل أكلْتَ جيداً؟
هل فعلْتَ ما هو مفترض أن تفعله كشخص من قومنا؟
واسمنت هذه المدينة
الريح السخاميّة، النوافذ الملتهبة،
الصرخات الحادة للآلات، لا تستطيع،
لا تستطيع حقاً أن تشبع ذلك الجوع
لكنني تقتُ، بصدق وإخلاص،
كي أغذي نفسي بها.
وهكذا غنّيت لنفسي بهدوء:
أنا أغذي نفسي
بالحضور المتواضع
لكل ما حولي؛
أنا أغذي نفسي
بروحك، يا أمّي الأرض؛
اجعليني هادئاً ومتواضعاً،
باركيني.
(من ديوان التماس المطر (1967))
[اختار القصائد وترجمها عن الإنكليزية وقدم لها أسامة إسبر]